نواصل الدراسة عن حدث أعتقد أنه من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية؛ ولكن على العالم كله كما سيتبين لنا في هذه الصفحات...
وهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية، ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله عز وجل سماه بالفتح المبين، وهذا الفتح ليس كما يظن بعض الناس أنه فتح مكة الذي جاء في قوله تعالى: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] {الفتح:1}.
فإن الكثير من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي أن الله عز وجل قد ذكر أولئك الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أن الله سبحانه وتعالى قد رضي عنهم تصريحًا في كتابه الكريم قال تعالى: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الفتح:18}.
وهذا الكلام الحكيم من رب العالمين يشمل بما يزيد على ألف وأربعمائة من الصحابة، وتخيل هذا الجمع الهائل من الصحابة، وقد صرح الله تعالى أنه قد رضي عنهم جميعًا، إن هذا الأمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع الهام والخطير، وإننا لن نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بدراسة أحداث العام السادس من الهجرة، فبعد نهاية العام السادس بدأ نجم المسلمين يسطع في الجزيرة العربية بكاملها، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام بعد رجوع الأحزاب وهم يتجرعون كأس الهزيمة قال كلمته المشهورة: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ.
ومن ثَمَّ كانت السنة السادسة للهجرة وهي السنة التي تلت غزوة الأحزاب كانت في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة، تصب كلها في صالح المسلمين، ومجمل هذه الآثار أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة الجانب، لها قوة ولها هيبة ولها عظمة في قلوب جميع العرب بمن فيهم قريش، وأن قريشا بدأت تفتقد إلى الأعوان وإلى الأحلاف وإلى الأصحاب، وبدأ ميزان القوة يتحول لصف المسلمين على حساب قريش، وهذا الأمر سيكون له مردود هام في صلح الحديبية كما سيتبين لنا الآن.